الخبر في ضيافة المسرحي الحاج قندسي سليمانأنا في انتظار تنظيم حفل اعتزالي لخشبة المسرح كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة من مساء يوم الأربعاء حين التحقنا بالطابق الأول في عمارة شاهقة تقع في شارع الصومام بقلب مدينة سيدي بلعباس قبل أن ندق الباب رقم 6 أين استقبلنا الإبن الأكبر قدور بصدر رحب، لنلج بيتا مضيافا، قبل أن يؤذن لنا بالجلوس وسط عبارات
الترحاب والتهليل بقدوم ممثل منبر إعلامي محبوب لدى كل أفراد العائلة بكبيرها وصغيرها.
انتظرنا للحظات، بداخل صالون شقة توحي أجواؤها بأنها جزء من ''الخيمة الكبيرة'' التي يفضل أطفال العائلة اللجوء إليها، وسط تقاليد محافظة، قبل أن يقرع باب الغرفة الممثل القدير و الأب الروحي للكوميديا الفكاهية الحاج قندسي سليمان، الذي وصل إلى مكان للجلوس بمساعدة الإبن الأكبر، وبخطوات متثاقلة توحي بفقدان هذا العملاق للكثير من حيويته وخفة روحه بسبب المرض وثقل السنين.
ووسط عبارات التقدير والامتنان التي يكنها عملاق المسرح والكوميديا الفكاهية لـ ''الخبر'' سارع الإبن قدور للإستنجاد بسماعة إصطناعية أوحت لنا بالصعوبات التي باتت تلازم الأب سليمان للاستماع إلى مخاطبيه ومحدثيه.
موهبة فنية فذة تخرجت من صفوف الحركة الكشفية
ولد الحاج قندسي سليمان إبن حي ''كياسون'' سنة 1930 بمدينة سيدي بلعباس أين التحق، مع بلوغ سن السادسة، بمدرسة ابن رشد الإبتدائية خلال الحقبة الإستعمارية. لم ينتظر الحاج كثيرا ليقرر، رغم صغر سنه، الالتحاق بالكشافة الإسلامية، وهو التنظيم الذي تبلورت، لدى العملاق، بداخل صفوفه إحساس رهيب بضرورة ولوج العالم الفني والمسرحي بالنظر للموهبة الفذة التي كانت لديه. وكان لسكاتش ''الرضيع العملاق''، الذي أدى فيه قندسي الدور الرئيسي، وبامتياز، دور كبير في رسم معالم بداية فنية حافلة بالانجازات، إذ سمح التحاق الحاج بمنصب مكلف بمراقبة التذاكر عند بوابة المسرح الجهوي لسيدي بلعباس بالاحتكاك بعدد كبير من الفنانين المسرحيين على وجه الخصوص، على غرار فرقة يوسف وهبي المصرية، قبل أن تفتح له فرقة ''صوت النضال'' ذراعيها لتضمه إلى صفوفها، وهي الفرقة التي كان يقودها الصديق الحميم لقندسي عباس بوذن.
تفوق الحاج وتحكمه الجيد في تقنيات النصوص المسرحية وموهبته الفذة سمحت له بتقمص الأدوار الرئيسية في كل المسرحيات التي شارك فيها، على غرار ''قندسي بغا يترفح''.. و '' قندسي ولا فرملي'' ، ''الرهبة عندنا وواحد ما عبا''. وهي المسرحيات التي تضاف إلى مجموعة أخرى من العروض التي لعبت كلها أمام مقاعد مكتظة سواء بسيدي بلعباس أو بباقي المسارح الجهوية الأخرى التي أبدع فيها ''العملاق''.
الحاج قندسي، ورغم ثقل السنين، لايزال يتذكر من عاشروه ومن اعترفوا له بالتفوق والتميز، على غرار المرحومين عبد القادر علولة وسيراط بومدين اللذين انبهرا بطريقة الحاج سليمان الفريدة من نوعها في إلقاء النكت، التي استطاع بفضلها العملاق أن يجلب إليه جمهورا واسعا أينما حل وارتحل بحكم ما كان لهذه الخرجات من أثر على نفوس المتفرجين، الذين عادة ما كانوا يغرقون في الضحك الهستيري ولفترات غير محدودة.
'' مت - قاعد '' الخرجة التي حيرت مصالح الضرائب
عمل الحاج قندسي سليمان لفترة طويلة جدا كرئيس مكتب بمصالح الضرائب بولاية سيدي بلعباس، وهو القطاع الذي يكن فيه كل الموظفين القدامى والجدد احتراما كبيرا لشيخ الفنانين بعاصمة ''المكرة'' دون استثناء. وقد تزامنت الفترة التي أحيل فيها الشيخ على المعاش مع صدور تفسير جديد لمصطلح متقاعد، إذ لم يتأخر بطل التنكيت في إصدار تفسير أكثر مطابقة للواقع المعيش بعد أن قالها، ولأول مرة، لأحد موظفي مصالح الضرائب: ''يعني ذلك بالنسبة إلي مت - قاعد '' أي بمعنى مت جالس''. وذلك مباشرة بعد أن أبلغه ذات الموظف بتلقي الحاج لما يعادل مليون سنتيم شهريا بداية من الشهر الأول الذي سيخلد خلاله للراحة.
''التسنتير'' والإهمال ...دفعا به إلى هجرة الركح
وكانت سنة 1996 بمثابة الفترة الزمنية التي عرفت تحولا جذريا في المسيرة الفنية للحاج قندسي سليمان إذ لم ينتظر عملاق الفكاهة كثيرا ليتخذ قرار حازما يقضي بمغادرة الركح بلا رجعة، بعد أن وقف على الإهمال وعدم مبالاة المسؤولين بما كان يقدم وينتج على الخشبة التي سلبته سنين العمر دون أن توفر له مداخيل محترمة. ويصف الفكاهي الشهير الحالة التي كان عليها الجيب خلال تلك الفترة ب ''التسنتير''، وذلك كناية عما تلقيه على مسامع الأذن أوتار القيتار الكهربائي العصري أي ''واو..واو''، كما قالها الحاج، وهو يغرق في الضحك بالنظر للحالة التي كان عليها الجيب آنذاك و غياب أي اهتمام من القائمين على شؤون الفن والفنانين، رغم جودة تلك الأعمال المسرحية التي كانت تجلب إليها الآلاف من محبي الحاج سليمان وفرقته الشهيرة.
....حكما ''ديبلوماسيا'' وأحداث طريفة بالجملة مع عالم كرة القدم
يجهل الكثيرون أن الحاج قندسي سليمان كان حكما تابعا للرابطة الولائية لكرة القدم بسيدي بلعباس، وهي الهواية التي مارسها عملاق المسرح لمدة قاربت العشر سنوات قضاها المعني بحلوها ومرها، وسط عالم مليء بالتناقضات والأخطار خاصة وسط تلك المباريات التي أدارها بين فرق بلديات تابعة للولاية رقم .22 وكانت مسيرة الحكم قندسي مليئة أيضا بالأحداث الطريفة المضحكة، إذ سبق للحاج سليمان وأن أدار لقاء في إطار الأدوار الجهوية لكاس الجزائر وهي المباراة التي عرفت اندفاعا بدنيا كبيرا حتم على قندسي استدعاء قائدي الفريقين لإقناعهما، وبطريقة دبلوماسية، بضرورة عدم اللجوء إلى الخشونة. ويتذكر الحاج، بعد برهة من الزمن، الطريقة التي لجا خلالها إلى مساءلة قائد الفريق الأول حول هوية الفريق الذي سينال كأس الجمهورية لذلك الموسم، ليذكر الأول تسمية ''مولودية الجزائر'' قبل أن يرد الثاني عن نفس السؤال بقوله: ''وفاق سطيف'' ..هاتان الإجابتان عبدتا الطريق أمام الحاج الطريق لتهدئة الأجواء بسهولة منقطعة النظير، بعد أن قال للاعبين:''إذن فلماذا كل هذه التجاوزات والخشونة رغم إدراك كل واحد منكما بعدم وجود أي فرصة للظفر بالكأس؟'' . ويتذكر الحاج سليمان أيضا تلك الحادثة التي وقعت له في أحد الملاعب أين وجد نفسه فجأة بداخل حفرة كبيرة مغطاة على شكل فخ وسط أرضية الميدان لتنفجر حناجر الأنصار مرددة عبارات ''قندسي سرطاته لرض''، قبل أن يشير إلى المباراة الأولى في مشواره كحكم سنة ,1950 وهي المباراة الشهيرة التي جرى أثناءها، لمدة ربع ساعة، حتى تعب هروبا من بطش مجموعة من اللاعبين الذين اتجهوا صوبه في محاولة لاستشارته وهو الذي تنبأ بإمكانية تلقيه للضرب المبرح بالنظر للحالة النفسية التي كانت عليها عناصر الفريقين.
تابع الموضوع في الرد التالي وشكرا